سورة مريم - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{تِلْكَ الجنة} مبتدأٌ وخبرٌ جيء به لتعظيم شأنِ الجنةِ وتعيينِ أهلِها، فإن ما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِها وعلوِّ رتبتها {التى نُورِثُ} أي نورثها {مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} أي نُبقيها عليهم بتقواهم ونمتّعهم بها كما نُبقي على الوارث مالَ مُورِّثه ونمتّعه به، والوِراثةُ أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا تُعقَبُ بفسخ ولا استرجاعٍ ولا إبطالٍ، وقيل: يُورَّث المتقون من الجنة المساكنَ التي كانت لأهل النار لو آمنوا وأطاعوا زيادةً في كرامتهم، وقرئ: {نورّث} بالتشديد.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} (حكايةٌ لقول جبريلَ حين استبطأه رسولُ الله عليهما الصلاة والسلام لما سئل عن أصحاب الكهفِ وذي القرنين والروح، فلم يدرِ كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه أربعين يوماً أو خمسةَ عشرَ فشق ذلك عليه مشقةً شديدة، وقال المشركون: وَدَّعَه ربُّه وقلاه ثم نزل ببيان ذلك) وأنزل الله عز وجل هذه الآيةَ وسورةَ الضحى، والتنزّل النزولُ على مَهل لأنه مطاوعٌ للتنزيل وقد يطلق على مطلق النزولِ كما يطلق التنزيلُ على الإنزال، والمعنى وما ننزِل وقتاً غَبَّ وقتٍ إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمتُه، وقرئ: {وما يَتنزَّل} بالياء والضمير للوحي {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك} وهو ما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ولا ننتقل من مكان إلى مكان ولا نتنزّل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أي تاركاً لك يعني أن عدمَ النزل لم يكن إلا لعدم الأمر به لحكمة بالغةٍ فيه، ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعِه إياك كما زعمَتِ الكفرة، وفى إعادة اسمِ الربّ المُعربِ عن التبليغ إلى الكمال اللائقِ مضافاً إلى ضميره عليه السلام من تشريفه والإشعارِ بعلة الحكمِ ما لا يخفى، وقيل: أولُ الآية حكايةُ قولِ المتقين حين يدخُلون الجنة مخاطِباً بعضُهم بعضاً بطريق التبجّح والابتهاج، والمعنى وما نتنزّل الجنةَ إلا بأمر الله تعالى ولطفه وهو مالكُ الأمورِ كلِّها سالِفها ومُتَرقَّبِها وحاضرِها فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضلِه وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} تقريرٌ لقولهم من جهة الله تعالى أي وما كان ناسياً لأعمال العاملين وما وعدهم من الثواب عليها.
وقوله تعالى: {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بيانٌ لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن مَن بيده ملكوتُ السموات والأرض وما بينهما كيف يُتصوَّر أن يحوم حول ساحتِه سبحانه الغفلةُ والنسيانُ؟ وهو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو بدلٌ من ربك، والفاء في قوله تعالى: {فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى ربَّ السمواتِ والأرض وما بينهما، وقيل: من كونه تعالى غيرَ تارك له عليه السلام أو غيرَ ناس لأعمال العاملين، والمعنى: فحين عرفتَه تعالى بما ذُكر من الربوبية الكاملةِ فاعبده الخ، فإن إيجابَ معرفته تعالى كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفتَ أنه تعالى لا ينساك أو لا ينسى أعمالَ العاملين كائناً مَنْ كان فأقبِلْ على عبادته واصطبرْ على مشاقّها ولا تحزن بإبطال الوحي وهُزْؤ الكفرةِ، فإنه يراقبك ويراعيك ويلطُف بك في الدنيا والآخرة.
وتعديةُ الاصطبار باللام لا بحرف الاستعلاء كما في قوله تعالى: {واصطبر عَلَيْهَا} لتضمينه معنى الثباتِ للعبادة فيما تورِد عليه من الشدائد والمشاقّ، كقولك للمبارز: اصطبرُ لِقَرنك أي اثبُت له فيما يورِد عليك من شدائده {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} السمِيُّ الشريكُ في الاسم والظاهرُ أن يراد به هاهنا الشريكُ في اسم خاص قد عُبِّر عنه تعالى بذلك وهو ربُّ السموات والأرض وما بينهما، والمرادُ بإنكارُ العلم ونفيُه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجهٍ وآكَدِه، فالجملةُ تقريرٌ لما أفاده الفاء من علّية ربوبيته العامةِ لوجوب عبادتِه بل لوجوب تخصّصها به تعالى ببيان استقلالِه عز وجل بذلك الاسمِ وانتفاءِ إطلاقِه على الغير بالكلية حقاً أو باطلاً.
وقيل: المرادُ هو الشريكُ في الاسم الجليلِ فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسمّوا الصنم بالجلالة أصلاً، وقيل: هو الشريكُ في اسم الإله والمرادُ بالتسمية التسميةُ على الحق، فالمعنى هل تعلم شيئاً يسمى بالاستحقاق إلها؟ وأما التسميةُ على الباطل فهي كلا تسميةٍ، فتقريرُ الجملة لوجوب العبادة حينئذ باعتبار ما في الاسمين الكريمين من الإشعار باستحقاق العبادةِ فتدبر.


{وَيَقُولُ الإنسان} المرادُ به إما الجنسُ بأسره وإسنادُ القول إلى الكل لوجود القولِ فيما بينهم وإن لم يقله الجميع، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتلُ واحدٌ منهم وإما البعضُ المعهودُ منهم وهم الكفرةُ أو أُبيُّ بنُ خلف فإنه أخذ عظاماً باليةً ففتّها وقال: يزعُم محمد أنا نبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذه الحال، أي يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} أي أُبعث من الأرض، أو من حال الموت، وتقديمُ الظرف وإيلاؤه حرفَ الإنكار لما أن المنكرَ كونُ ما بعد الموت وقت الحياة، وانتصابُه بفعل دل عليه أُخرجُ لا به فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها وهي هاهنا مخلَصةٌ للتوكيد مجرّدةٌ عن معنى الحال، كما خلَصت الهمزةُ واللامُ للتعويض في يا ألله فساغ اقترانُها بحرف الاستقبال، وقرئ: {إذا ما مِتّ} بهمزة واحدة مكسورة على الخبر.
{أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإنسان} من الذكر الذي يراد به التفكرُ، والإظهارُ في موقع الإضمار لزيادة التقريرِ والإشعارِ بأن الإنسانيةَ من دواعي التفكرِ فيما جرى عليه من شؤون التكوينِ المُنْحِية بالقلع عن القول المذكور، وهو السرُّ في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان، والهمزةُ للإنكار التوبيخيِّ والواوُ لعطف الجملة المنفيةِ على مقدّر يدلُّ عليه يقول، أي أيقول ذلك ولا يذكر {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} أي من قبلِ الحالة التي هو فيها وهي حالةُ بقائِه {وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} أي والحالُ أنه لم يكن حينئذ شيئاً أصلاً، فحيث خلقناه وهو في تلك الحالةِ المنافيةِ للخلق بالكلية مع كونه أبعدَ من الوقوع فلأَنْ نَبعثَه بجمع الموادِّ المتفرِّقة وإيجادِ مثلِ ما كان فيها من الأعراض أَوْلى وأظهرُ، فما له لا يذكُره فيقعَ فيما يقع فيه من النكير وقرئ: {يذّكّر} و{يتذكر} على الأصل.


{فَوَرَبّكَ} إقسامُه باسمه عزّت أسماؤه مضافاً إلى ضميره عليه السلام لتحقيق الأمرِ بالإشعار بعلّيته وتفخيمِ شأنِه عليه الصلاة والسلام ورفع منزلتِه {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} لنجمعَن القائلين بالسَّوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم من الأرض أحياءً، ففيه إثباتٌ للبعث بالطريق البرهانيّ على أبلغ وجهٍ وآكَدِه كأنه أمرٌ واضحٌ غنيٌّ عن التصريح به، وإنما المحتاجُ إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال {والشياطين} معطوفٌ على الضمير المنصوبِ أو مفعول معه. روي أن الكفرةَ يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تُغْويهم، كلٌّ منهم مع شيطانه في سلسلة، وهذا وإن كان مختصاً بهم لكن ساغ نسبتُه إلى الجنس باعتبار أنهم لما حُشروا وفيهم الكفرةُ مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعاً كما ساغ نسبةُ القولِ إلى المحكيّ إليه مع كون القائل بعضَ أفراده {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} ليرى السعداءُ ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غِبطةً وسروراً وينالَ الأشقياءُ ما ادخّروا لِمَعادهم عُدّةً ويزدادوا غيظاً من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتِهم بهم، والجِثيُّ جمع جاثٍ من جثا إذا قعد على ركبتيه، وأصلُه جُثُوْوٌ بواوين فاستُثقل اجتماعُهما بعد ضمتين فكسرت الثاءُ للتخفيف فانقلبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياء الأولى وكُسرت الجيم إتباعاً لما بعدها وقرئ بضمها، ونصبُه على الحالية من الضمير البارز أي لنُحضرنهم حول جهنم جاثين على رُكَبهم لما يدهَمُهم من هول المطلَعِ أو لأنه من توابع التواقُفِ للحساب قبل التواصُل إلى الثواب والعقاب، فإن أهلَ الموقف جاثون كما ينطِق به قوله تعالى: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} على ما هو المعتادُ في مواقف التقاول، وإن كان المرادُ بالإنسان الكفرةَ فلعلهم يساقون من الموقف إلى شاطىء جهنم جُثاةً إهانةً بهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة.
{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ} أي من كل أمةٍ شايعت ديناً من الأديان {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} أي مَنْ كان منهم أعصى وأعتى فنطرَحهم فيها، وفي ذكر الأشدّ تنبيهٌ على أنه تعالى يعفو عن بعضٍ من أهل العصيان. وعلى تقدير تفسير الإنسانِ بالكفرة فالمعنى إنا نميز من كل طائفةٍ منهم أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم فنطرحهم في النار على الترتيب أو نُدخل كلاًّ منهم طبقتَها اللائقةَ به. وأيُّهم مبنيٌّ على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يُبنى كسائر الموصولاتِ لكنه أُعرب حملاً على كلٍ وبعض للزوم الإضافة، وإذا حُذف صدرُ صلتِه زاد نقصُه فعاد إلى حقه، وهو منصوبُ المحل بننزعنّ ولذلك قرئ منصوباً، ومرفوعٌ عند غيره بالابتداء على أنه استفهاميٌّ وخبرُه أشدُّ والجملةُ محكيةٌ، والتقديرُ لننزعَنّ من كل شيعةٍ الذين يقال لهم أيُّهم أشدُّ، أو مُعلّقٌ عنها لننزعن لتضمّنه معنى التمييزِ اللازمِ للعلم، أو مستأنفةٌ والفعل واقعٌ على كل شيعة كقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا} و(على) للبيان فيتعلق بمحذوف كأنّ سائلاً قال: على مَنْ عتَوا؟ فقيل: على الرحمن، أو متعلقٌ بأفعل وكذا الباءُ في قوله تعالى {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} أي هم أولى بالنار وهم المنتزَعون، ويجوز أن يراد بهم وبأشدِّهم عِتيًّا رؤساءُ الشِيَع فإن عذابَهم مضاعفٌ لضلالهم وإضلالهم، والصِّليُّ كالعِتيّ صيغةً وإعلالاً وقرئ بضم الصاد.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10